الأربعاء، 17 أغسطس 2011

الحقيقة



الثورة ثورة.. ليست شبه ثورة

  بقلم   حمدى قنديل    ١٥/ ٨/ ٢٠١١
أطلت الثعابين والثعالب من جحورها لتنقض على ٢٥ يناير، وبدأت حثالة نظام الاستبداد تسفر عن سحنتها التى طالما تمرغت فى الفساد والنفاق لتكشف لنا عن جوانب مؤامرة واسعة على الثورة استغلت لحظة مواتية، لحظة التراجع الراهن للمد الثورى.. فى قاعة محاكمة مبارك وأزلامه تحاول هيئة دفاعه التحايل بالتقارير الطبية حتى يغيب عن الأنظار، وتعمل على إغراق الجلسات فى الاستماع لمئات الشهود، وتبتكر الدفوع لتمييع التهم، وتجهد فى الإيقاع بين الشعب والمشير، وتمط فى أجل المحاكمة لعل الأقدار تأتى بمفاجآتها.. وخارج القاعة تشحن العواطف البلهاء والمشاعر الطيبة وتحشد كلاب الأمن المأجورة للاعتداء على أهالى الشهداء والمصابين وعلى المحامين عنهم..
أما خارج التجمع الخامس الذى تنعقد فيه المحكمة فإن الستار ينزاح بعرض الوطن كله عن أركان المؤامرة جميعاً، من خلخلة سيناء حتى تسقط فى أيادى الغرباء، إلى الفتنة فى جرجا والمنيا التى أكدت تحقيقاتها تورط جرذان الحزب الوطنى، إلى تشكيل «ائتلاف روكسى» ليساند عصابة مصطفى محمود، إلى شق صفوف العمال بألاعيب أباطرة الاتحاد العام المنحل، إلى دسائس تغييب الأمن لتعم الفوضى، إلى إعادة تنظيم القوى المناوئة للثورة فى أحزاب وحركات جديدة مشبوهة، وحتى محاولة إعادة اسم مبارك إلى المترو والمدارس والمكتبات.
لكن أدهى أركان المؤامرة خبثاً هو بث السموم بين عموم الناس بواسطة الإعلام، خاصة ذلك الذى يحركه عن عمد أو عن غفلة عدد من أصحاب القنوات الفضائية الجديدة، والقديمة ومسؤولو التليفزيون الرسمى وقادة الصحف.. روج الإعلام أن الثورة لا تعدو أن تكون هبة سرعان ما ستخبو جذوتها، ودرج أحدهم على وصفها بـ«أحداث ٢٥ يناير» واجترأ آخر عليها فنعتها بأنها «أسود ١٨ يوماً فى تاريخ مصر».. أشاع الإعلام اليأس والإحباط من مصير مظلم تساق له البلاد.. أوهم الإعلام الجمهور العام بأن الثورة تسببت فى انعدام الأمن، وها هى تقود الاقتصاد إلى شفير الإفلاس.. نفخ الإعلام فى حبائل الوقيعة بين القوى الوطنية، وسعى حثيثاً إلى الوقيعة بين الثوار والشعب، والوقيعة بينهم وبين القوات المسلحة.. اختلق الإعلام البلبلة حول الأحداث، وزاد من تعقيد الأزمات، وشكك فى الثوار، وغيب الوعى وشتت انتباه المواطنين عن قضاياهم الرئيسية بالأخبار المفبركة وبذاءات وسفاهات برامج النميمة والاستظراف المقىء والتسلية الرخيصة.
وفى رمضان وصلت المؤامرة الإعلامية إلى ذروتها عندما تصدر الشاشات والمناشيتات رموز عصر مبارك يترحمون على أيامه وينعون حال البلد من بعده.. نعرف أن بعضاً من أهل الإعلام شريك فى المؤامرة.. ونعرف أن بعضاً من الصحف تبيع ضمائرها وهى تتقاتل للصعود إلى القمة أو الهروب من القاع.. ونعرف أن بعضاً من برامج التليفزيون انزلقت طائعة أو مرغمة إلى السوق التجارية منذ ظهرت صور نجومها فى إعلانات الشوارع وراحوا يتسابقون فى منافسة رعناء أحياناً على قضم كعكة الإعلام.. ونعرف أن بعضاً من المهنيين البارزين استضاف الرموز العفنة بنية الاستماع إلى رأى آخر.. لكن الثورة فى كل الأحوال ليست سلعة وليست وجهة نظر.. الثورة طىُّ لصفحة الماضى وبدء صفحة جديدة تماماً.
لا يمكن أن نخرج حسام بدراوى من شرنقة الحزب الوطنى، فإذا به مناضل ثورى وهو الذى حاول إنقاذ مبارك فى ورطته الأخيرة.. لميس ولميس (جابر والحديدى) وتامر وتامر (حسنى وأمين) وعشرات غيرهم ممن طعنوا الثورة يجب أن يغربوا عن وجوهنا.. إعلام آسفين ياريس، ومصر ولدت يوم ميلادك، إعلام أرامل أحمد عز وهشام طلعت وممدوح إسماعيل، إعلام التلفيق وكتبة أمن الدولة، إعلام الصور التعبيرية وطشة الملوخية، إعلام ماسحى أحذية الحكام ومتعهدى ورنيش النظام، إعلام الندابات اللائى وَلْوَلن على الحشيش والجنس واليورو والكنتاكى فى ميدان التحرير، إعلام المؤرخ المستجد عبدالله كمال الذى أسس صفحة فى فيس بوك بعنوان «لا لإذلال قاهر الصهاينة ونسر أكتوبر» إعلام لم يعد له بيننا مكان.. وسدنة هذا الإعلام الذين يمسكون بخيوطه سواء كانوا من بارونات التليفزيون مثل حسن راتب أو نظار عزب الإعلانات مثل حسن حمدى أو المفكرين الاستراتيجيين مثل عبدالمنعم سعيد آن لنجمهم أن يغيب.. الثورة ثورة، ليست نصف ثورة أو شبه ثورة.. وعندما يحاول النظام القديم أن ينقض عليها أو أن يستنسخ نفسه، كما هو الحال الآن، فلابد للثوار أن يحموا الشعب من الانزلاق إلى مستنقع الماضى، ولابد من إزاحة أعدائه عن الطريق.
الخطأ القاتل الآن هو أن يوحى أحد، أو يتوهم أحد، أنه يكفى أننا عزلنا مبارك أو حاكمناه، أو أنه يكفى أننا قمنا بحل الحزب الوطنى واتحاد العمال والمجالس المحلية، أو أنه يكفى ذهاب عمر سليمان وأحمد شفيق، أو أنه يكفى سجن بضعة وزراء وعدة لواءات، أو أنه يكفى فك وتركيب الحكومة أو عزل محافظ وتعيين آخر.. التطهير يجب أن يمتد ليشمل كل الفلول فى كل المواقع للحفاظ على مكتسبات الثورة وإحداث التغيير المطلوب فى المجتمع.. وكان هذا قد بدا كما لو أنه الهدف الأول لحكومة شرف الجديدة، عندما أصدرت قراراً بعد تشكيلها مباشرة، ينص على «إبعاد جميع أركان النظام السابق من مواقع المسؤولية فى جميع أجهزة الدولة فى أسرع وقت ممكن».. كان ذلك يوم ٢٦ يوليو.. اليوم مضت ثلاثة أسابيع لم تف فيها الحكومة بوعدها.. عادت تماطل بل خالفت ما أعلنته وعينت محافظين جدداً بعضهم من رجال الحزب المنحل.. والحق أن هذا لم يكن غريباً على حكومة تضم أربعة وزراء من عهد مبارك، إضافة إلى وزير الإسكان الشريك فى تزوير إرادة الأمة عندما كان محافظاً فى دمياط ونائبا عن كفر الزيات.
حكومة كهذه إذن لا يتوقع منها إجراء حازم ناجز يلبى مطالب الثوار فى التطهير، ومطالب الثوار معروفة، فى مقدمتها رحيل النائب العام الذى يتحصن بقانون يمنع إقالته (وإن كان الحل فى قانون جديد يقضى بتعيينه من قبل المجلس الأعلى للقضاء لا رئيس الجمهورية)، وتطهير القضاء من القضاة الذين زوروا الانتخابات، وتطهير الجهاز المركزى للمحاسبات والمجلس الأعلى للصحافة واتحاد الإذاعة والتليفزيون وإقالة رؤساء الجامعات، وإقصاء رئيس هيئة الاستعلامات ورئيس المجلس القومى للشباب ومحافظ الإسكندرية، وإقصاء المستشارين من أتباع النظام البائد مثل محمد الدكرورى محامى مبارك ومستشاره القانونى وأمين القيم فى حزبه المنحل، وكذلك موظفون كبار مثل كبير الأطباء الشرعيين السابق السباعى أحمد السباعى الذى سبق إبعاده لاتهامه بتغيير الصفة التشريحية لشهداء الثورة فإذا به يعاد إلى المكتب الفنى للطب الشرعى.. وباقى القائمة التى يتصدرها مسؤولو حزب مبارك فى المراكز والأقاليم وأعضاء مجلس شعبه وشوراه، وخدام مشروع توريثه معروفة للكافة.
عند إقامة مبنى جديد فأنت تنظف الموقع أولاً من الأنقاض والقمامة، ثم تبدأ بعدها فى وضع الأساس.. فلننظف البلد أولاً من قمامة عهد الطاغية لنبنى مصر الجديدة.. الثورة ثورة، ليست نصف ثورة أو شبه ثورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق