الخميس، 20 أكتوبر 2011

علمانية الاسلام




 
جمال البنا يكتب: الإسـلام والحـرية والعلمانية
٢٠/ ١٠/ ٢٠١١

علمانية الإسلام:
إذا خلصنا من اللَبْس الأول بحيث يكون مرجعنا هو القرآن، وليس المقررات الفقهية، وإذا سلمنا بأن الأحكام التى تصدر عن الكنيسة الكاثوليكية لا يمكن أن تنطبق على الإسلام، ببساطة، لعدم وجود مثل هذه الكنيسة- فإن الجو يتهيأ لمعالجة قضية العلمانية والإسلام.
أول ما يلفت الانتباه أن الإسلام على نقيض الأديان السابقة لم يجعل دليلاً على مصداقية معجزة خارقة للعادة، مخالفة للنواميس، كإحياء الموتى، أو عدم الاحتراق بالنار، أو تحويل عصا موسى إلى حية تسعى… إلخ، إن معجزته هى «كتاب»، ووسيلته إلى كسب الإيمان تلاوة هذا الكتاب، ورفض القرآن طلب المشركين معجزة: «وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرُؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً» (الإسراء ٩٠ - ٩٣)، فهذه الآيات ليست، فحسب، تنفى ما طلبه من معجزات، ولكنها أيضًا تقرر ببساطة رائعة بشرية الرسول «هل كنت إلا بشرًا رسولاً».
ويصور القرآن نفسية الناس وقتئذ عما يجابهونه من جديد «وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا» (الفرقان ٧ - ٨)، ومرة أخرى «وقالوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (٥٠ - ٥١ العنكبوت).. فانظر كيف عزل القرآن عالم المعجزات عن عالم الدنيا، ووكل الأول إلى الله، وخص الرسول بأنه: «نذير مبين»، وكيف جابه المشركين بأن فى الكتاب ما يكفى.
ولا يقل دلالة فيما نحن بصدده ما أشرنا إليه آنفًا من أن الإسلام لا يعترف بالمؤسسة الدينية التى تحتكر التفسير والتأويل والتحريم والتحليل، وتكون واسطة بين الفرد والله، وتؤدى وظائفها داخل مبنى له شروط معينة ككنيسة أو معبد، ولا تجوز ممارسة الشعائر الدينية فى أى مكان آخر أو على أيدى رجال آخرين.
قضى القرآن على المؤسسة الدينية بوجهيها قلبًا وقالبًا، واعتبر أن قيام الأحبار والرهبان بالتحليل والتحريم والوساطة بين الفرد والله نوع من الشرك.. كما لم يربط بين أداء الشعائر بالمبنى المُعَيَّن الذى تقيمه المؤسسة، فالأرض كلها مسجد طهور تجوز الصلاة فيه، ومنظر القروى الذى يصلى على شاطئ النيل، أو البدوى الذى يصلى وسط الصحراء من المشاهد المألوفة، والمسجد نفسه ليس إلا أرضاً مُسَوَّرة يمكن لأى واحد إقامته، ويمكن لأى واحد يحفظ القرآن أن يكون إمامًا فى هذا المسجد.
كان من الأسباب التى أدت إلى انتفاء المؤسسة الدينية فى الإسلام بساطة ونصوع فكرة الألوهية، وعدم قيامها على لاهوت يشق على الرجل العادى إدراكه، ويحتاج إلى حَبْرٍ أو قِسٍّ أو كاهن متخصص.
وهذه الحقيقة كانت من أكبر أسباب «علمانية» الإسلام، لأنه أبعد كل المحاولات اللاهوتية التى تستعصى على العقول من مجال العقيدة.
إن إقرار حرية العقيدة والفكر وانتفاء المؤسسة الدينية وبساطة فكرة الألوهية أبعد الإسلام عن الثيولوجيـــــة قدر ما قربها من العلمانية، فضلاً عن أن التصوير الإسلامى الديناميكى للحياة الذى يقوم على التدافع، القريب من الصراع والجدل ما بين قوى الخير وقوى الشر، هداية الأنبياء وغواية الشياطين- يجعل الحرية جزءًا لا يتجزأ من كيانه ومكوناته، كما أن إطلاق قوى الغواية الذى يسمح به القرآن للشيطان إلى آخر مدى وحتى يوم القيامة «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا» (الإسراء: ٦٤)، يجعل وجود هذا العنصر- أى الحرية- أمرًا مقررًا ولابد منه لتمام التصوير القرآنى للحياة «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» (الشمس ٧ - ١٠).
لكن علينا أن نعترف بأن تطور المجتمعات من مجتمعات بسيطة الطبيعة محدودة العدد إلى مجتمعات «إمبراطورية» تتضخم فيها القضايا والاحتياجات، يفرض على هذه المجتمعات درجة من التخصص، وعندما بلغ المجتمع الإسلامى هذه الدرجة من تطوره أصبح من الضرورى ظهـور فئــــة تتخصص فى المعرفة الدينية الإسلامية، وتعالجها من منطلق هذا التخصص، فظهر علماء دين وليس رجال دين، فقهاء وليس «أكليروس»، ولكن هذه التفرقة بين علماء الدين فى الإسلام ورجال الدين فى المسيحية لم تثبت طويلاً، وأصبح علماء الدين فى الإسلام هم كرجال الدين فى المسيحية يهدفون دائمًا إلى احتكار «المهنة الدينية»، ويتذرعون بما جاء فى سياق طويل مختلف فى إحدى الآيات «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ»، وهم لا يرون تفرقة بينهم وبين الأطباء والمهندسين… إلخ. الذين يلجأ إليهم الناس عندما يريـــدون علاجًا أو يقيمون بناء.
ولنذكر مرة أخرى قصة البشرية مع الأديان، وأنه ما إن يقم الدين حتى يظهر الكهنة، والسدنة، تحت أى اسم وفى أى صورة ما دام الهدف واحدًا هو: الاستحواذ على الدين.
لكن الإنصاف يقتضينا أن نقول إن المؤسسة الدينية فى الإسلام لا يمكن أن تقاس بالكنيسة فى المسيحية، لأن الأولى إنما وجدت بحكم التطور، بينما الثانية موجودة بالنص فى الكتب المقدسة، ولهذا لم تحكم أبدًا المؤسسة الدينية الإسلامية لا بصفة مباشرة أو غير مباشرة كما حدث بالنسبة للكنيسة عندما كانت تحكم بالفعل، أو على الأقل هى التى «تُعَمِّد» الملوك ملوكًا وتُقَدم لهم التاج، وهو الأمر الذى كان مقررًا حتى رفضه نابليون.. ولم تُقِم المؤسسة الدينية الإسلامية محاكم دائمة مهمتها الوحيدة محاربة الزنادقة والحكم عليهم، وإن حكم الفقهاء فى عدد من الحالات بانحراف، أو حتى بردة بعض العلماء.. ولكنهم كانوا فى حقيقة الحال يمالئون الحاكم فى هذا، أو يحاولون اكتساب شعبية.
■ ■ ■
فى الوقت نفسه فإننا لم نقل إن القيم الدينية- سواء أكانت مسيحية أو إسلامية- تتفق مع القيم العلمانية- الدنيوية- فلا جدال فى أن هناك اختلافًا بَيِّنًا بين مجتمع لا يفرق أفراده بين المدنس والمقدس، ولا يستهدفون إلا مصالحهم، ويعملون لتحقيق أقصى بدرجة من الاستمتاع الطليق، من جانب، وقيم تفرق بين الخير والشر، وتلزم الإنسان بدرجة من الانضباط، وتكبح جماح شهوات المطالب الذاتية، والنقطة المهمة هى أنه مادامت الأديان ظلت تدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وتترك ما لقيصر لقيصر، فإن دعوتها تكون نافعة جدًا لإيجاد نوع من التوازن ولكبح جماح الشهوات الطليقة، والحبل المطلق على غاربه، ويصبح من الممكن إيجاد معايشة «جدلية» بين العلمانية والأديان تقوم على أساس تكامل لا يتحقق إلا بوجود الأمر ونقيضه.
وهنا أيضًا تجد نوعًا من التفرقة بين الإسلام والمسيحية قد يمثله موقفهما من العلاقات الجنسية، فالمسيحية متأثرة بفكر ومزاج القديس بول، المؤسس العملى للمسيحية، عزفت عن هذه العلاقات ولم ترَ فيها إلا شهوة الجسد واللحم والدم، لكنها لما كانت غريزة مستحكمة، فإن العزوف عنها كان يعنى «التحرق»، ولهذا تقبَّل القديس بول «التزوج» وضيَّقه فى أقل الحدود زوجة واحدة وتحريم الطلاق… إلخ.
لكن الإسلام كان أكثر علمانية، فرأى فيها غريزة أراد الله بها حفظ النوع، وإنَّ صاحبَها إذا وضعها موضعها المشروع أُثيب عليها- كما انه إذا انحرف بها عوقب عليها، فالقضية فى الإسلام قضية «تنظيم»، ومن هذا المنطق أباح التعدد فى بعض الحالات، كما جعل عقد الزواج يقوم على إيجاب وقبول، ويمكن أن ينتهى إذا فقد ذلك، أى عندما يصر الزوج أو الزوجة على الطلاق.
ولعله كان أكثر انسياقًا مع الطبيعة البشرية، فقد حرمت المسيحية تعدد الزيجات والطلاق، لكى تجد نفسها أمام تعدد «العلاقات» غير المشروعة، التى حلت محل الزيجات المشروعة فى المجتمع الإسلامى، ولكى تقر النظم أنواعًا متعددة من الطلاق رغم تحريم الكنيسة ذلك.
ويتفق الإسلام مع العلمانية فى أنه يرفض الدولة الثيولوجية، ويجعل الحكم عقدًا سياسيًا، فكأن الإسلام حقق العقد الاجتماعى الذى تصوره جان جاك روسو.. قبله بقرون طويلة.
إن الاستثناء الوحيد من هذا هو ما ذهب إليه الشيعة، الذين رأوا أن الإمامة بالنص، وأعطوا أئمتهم حصانة وكَوَّنُوا «مؤسسة دينية» لها مواردها الخاصة، تُعَدُّ هى «المرجعية»، وهذا كله يتنافى مع ما ذهب إليه جمهور المسلمين، لأنه يمكن أن تؤدى إلى الدولة «الثيولوجية»، التى يصعب فى وجودها ظهور علمانية، وقد ظهر التضاد منذ وقت بعيد، وكان مما دفع ابن تيمية إلى تأليف كتابه عن السياسة الشرعية الرد على ابن المطهر الحالى من الشيعة الإمامية.
ورَفْضُ جمهور المسلمين وجماعتهم لما ذهب إليه الشيعة وهو رَفْض الدولة الثيولوجية، على أن الدولة الشيعية نفسها عندما ظهرت فى العصر الحديث بانتصار ثورة الإمام الخمينى تتعرض الآن لتنقيح يخلصها من كثير من رواسبها القديمة، ويوائم بينها وبين حياة العصر.
وليس الحكم وحده هو الذى يقوم على التعاقد، إن معظم النشاط الاقتصادى يقوم عليه، بل إن الزواج رغم خصوصيته هو فى جوهره عقد مدنى يقوم على إيجاب وقبول، وكل الشروط الأخرى تكميلية، مع استبعاد أن يتم فى كنيسة وعلى يد كاهن.
ويعطى الإسلام الدنيا حظها: «وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا»، «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (الأعراف ٣٢)، وقد يذكر هنا عزوف الإسلام عن الرهبانية والزهد فى طيبات الحياة التى أحلها الله، لكن الإسلام لا يقتصر-
كالعلمانية على الدنيا، وإنما يضم إليها الآخرة ويحاول الجمع بينهما «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا»، وليس ثمة تناقض إلا فيما يمكن أن تذهب إليه الإرادة الفردية من شطط، وهذا الشطط إذا كان فى السلوك، فإن الإسلام أبدع آليات لإصلاحه كالتوبة والاستغفار والمقاصة أى عمل الحسنات التى تَجُبُّ السيئات، وإذا كان يمس المجتمع فهناك عقوبات أُرِيد بها الردع، وإذا كانت تدخل فى الظلم والاستغلال، فإن الإسلام يقيمها على أساس العدل.
من هذا العرض نرى أن هناك نقاط ائتلاف بين الإسلام والعلمانية خاصة فيما يتعلق بعلمانية الحكم.
ثلاثة جوانب يجب أن توضع فى التقدير:
هناك، بعد الدراسة الموضوعية لكل من الإسلام والعلمانية، ثلاثة جوانب يجب أن توضع فى الاعتبار، يختص أولها بمدى نقاء العلمانية الأوروبية، ويختص الثانى بطبيعة هذه البلاد، أعنى مصر خاصة والمنطقة العربية عامة، ويختص الثالث بنتائج تطبيق العلمانية فى المجتمع الأوروبى فى العصر الحديث.
(أ) مدى نقاء العلمانية الأوروبية:
تظهر الدراسة العميقة للمجتمع الأوروبى الحديث أن هذا المجتمع رفض الدين السماوى، واصطنع دينًا أرضيًا، وكفر بالله الذى جاءت به المسيحية والإسلام وآمن بآلهة جاءت بها السينما، ونظم الحكم والفنون والرياضة، فهو ليس علمانيًا خالصًا وحقيقيًا، لكنه علمانى بالنسبة للأديان القديمة، أما موقفه أمام القوى الجديدة الصاعدة فى سمائه فهو موقف المؤمن بها، العابد لها، ذلك أن الإنسان لما لم يكن بطبيعته إلهًا، ولا خالقًا لنفسه، أو لما فى الأرض من أشجار وأنهار ومعادن… إلخ،
وإنما هو متصرف فيها مستخلف عليها- فقد كان لا بد أن يوجد إلهًا، بعد أن رفض الإله الذى تقدمه له الأديان، يستوى ذلك المجتمع القديم والمجتمع الحديث، ففى اليونان أوجد الشعراء وأبدعوا تلك المنظومة من آلهة «الأوليمب»، التى دارت حولها الأساطير والآداب، وأورثت أوروبا الحديثة أسماءها، وفى الرومان أصبح الأباطرة آلهة، وتولى مجلس الشيوخ «تعيين» من يؤله من عظماء الرومان، وقبل هذين امتلأت أرض مصر بالآلهة من كل نوع، نيل وشمس، وحيوان… إلخ،
ولم يكن لهذا كله من داع لولا أن الإحساس بالحاجة إلى إله يكاد يكون فطريًا، ولعل القرآن قد أشار إلى ذلك بطريقته الرمزية، «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى» (١٧٢ الأعراف).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق